الصفحات

الأربعاء، 4 مايو 2016

الرئيسية شعرية قصيدة رحل النهار

شعرية قصيدة رحل النهار








الباحثة فاطمة الزهراء داوود

مدخل:

     تقوم هذه الدراسة على رصد عدد من عناصر الاتِّساق والانسجام في أحد النصوص الشعرية المهمة التي أبدعها الشاعر بدر شاكر السياب " رحل النهار" ، وهو  نص يحكي معاناة الشاعر من المرض العضال الذي ألم به، ويعتبر تجسيداً واعياً لتجربته الطويلة مع المرض ورحلة الإحباط التي رافقته طيلة سنواته الأخيرة، وقد عمدنا إلى الكشف عن آليات الاتِّساقالإحالات النصية والحذف والوصل والاتِّساق المعجمي، وآليات الانسجام النصيالبنية الكلية للنص، والعنوان، والمعرفة الكلية للعالم والانقطاع وغيرها، وختمنا البحث بخاتمة قصيرة تلخِّص أهم نتائج البحث.
قبل أن نبدأ بدراسة عناصر الاّتساق والانسجام في قصيدة "رحل النهار"،
نورد النص كاملاً؛ لأّنه موضوع الدراسة أولاً، ولأّنه نص ليس طويلاً أيضاً :

رحلَ النَّهار
ها إنهُ انطفأتْ ذبالتُهُ على أفقٍ توهجَ دونَ نار
و جلستِ تنتظرين عودةَ سندباد من السّفار
و البحرُ يصرخُ من ورائِك ، بالعواصفِ و الرعود
هو لن يعود !أو ما علمتِ بأنه أسرته آلهة البحار
في قلعةٍ سوداء في جزرٍ من الدمِ و المحار
هو لن يعود ..رحل النهار
فلترحلي ، هو لن يعود !
-*-*-*-*
الأفق غاباتٌ من الأفقِ الثقيلة و الرعود
الموتُ من أثمارهن و بعض أرمدة النهار
الموتُ من أمطارهن ، و بعض أرمدة النهار
الخوف من ألوانهن .. و بعض أرمدة النهار
رحل النهار
رحل النهار .

-*-*-*-*-
و كأن معصمكِ اليسار
و كأن ساعدكِ اليسار ، وراء ساعته .. فنار
في شاطئٍ للموت يحلم بالسفين على انتظار
رحل النهار
هيهات أن يقف الزمان ، تمر حتى باللحود
خطى الزمان و بالحجار
رحل النهار و لن يعود .

-*-*-*-*-
الأفق غاباتٌ من السحب الثقيلة و الرعود
الموتُ من أثمارهن و بعض أرمدة النهار
الموتُ من أمطارهن ، و بعض أرمدة النهار
الخوف من ألوانهن .. و بعض أرمدة النهار
رحل النهار
رحل النهار
خصلات شعرك لم يصنها سندباد من الدمار
شربت أجاج الماء حتى شاب أشقرها و غار
و رسائل الحب الكثار مبتلة بالماء منطمسٌ فيها ألق الوعود 

و جلستِ تنتظرين هائمة الخواطر في دوار :
سيعود ، لا .. غرق السفين من المحيط إلى القرار
سيعود ، لا .. حجزتهُ صارخة العواصف في إسار
يا سندباد .. أما تعود ؟
كان الشباب يزول ، تنطفئ الزنابق في الخدود
فمتى تعود ؟
أوّاه .. مدّ يديك بين القلب عالم الجديد
بهما و يحْطم عالم الدم و الأظافر و السعار
يبني .. و لو لهنيهة دنياه ..آهٍ .. متى تعود ؟
أترى ستعرف ما سيعرف ، كلما انطفأ النهار
صمتُ الأصابعِ من بروق الغيب في ظلم الوجودِ
دعني لآخذ قبضتيك ، كماء ثلجٍ في انهمار
من حيثما وجهت طرفي .. ماء ثلج في انهمار
في راحتيّ يسيل .. في قلبي يصبّ إلى القرار
يا طالما بهما حلمتُ كزهرتين على غدير
تتفتحان على متاهة عزلتي "رحل النهار ..
-*-*-*-*-
و البحر متسعٌ و خاوٍ ، لا غناء سوى الهدير
و ما يبين سوى شراعٍ رنحته العاصفات .. و ما يطير
إلا فؤادك فوق سطح الماء يخفق في انتظار
رحل النهار ..فلترحلي ..
       أول إشارة يمكن أن نستهدي بها في هذه الدراسة هي أن الشاعر بدر شاكر السياب كما سبق الذكر  في قصيدته أضاء شيئاً من معاناته، وهو على فراش الموت، مودعا أحباءه للأبد بعد أن فتك به المرض.
   وسنتناول في هذه الدراسة عناصر الاّتساق النصي الخمسةوهي الإحالة، والاستبدال، والحذف، والوصل، والاتساق المعجمي، تناولاً تطبيقياً لقياس مدى إسهامها في تحقيق الاّتساق النصي الذي يسهم في منح النص الأدبي نصيته، وذلك من خلال تلمس هذه العناصر في قصيدة بدر شاكر السياب "رحل النهار".
     ولعل العنوان كان دافعاً لاختيار هذا النص ميداناً لتطبيق آليات الانسجام النصي المذكورة، فالمعروف أن النهار لا يرحل إلا ليعود، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. غير أن اقتران النهار بفعل (الرحيل) في العنوان، اتخذ منحى جديدا، وهو تأكيد من الشاعر على نهايته الوشيكة، وموته الحتمي. مما جعل من رحيل النهار، يحمل بعدا دلاليا متأزما، مرتبطا بالموت والنهاية والهلاك.

1- الاّتساق:
    ويمثِّلُ هذا الإجراء منهج تحديد نصية النص، فما لم يحقق شروطاً محددةً تجعل منه  نصاً مترابطاً دلالياً ونحوياً ومعجمياً، فإّنه لا يعد  نصاً، أو أنَّه يفقد جزءاً من شروط النصية، لأنَّه لا بد من تحقيق الاتِّساق النحوي والمعجمي بالدرجة التي تتحقق بها عناصر الاتِّساق الدلالي، فإذا افتقر النص إلى مثل هذه الشروط، فإّنه يمكن الحكم عليه بالاختلال وعدم الاتِّساق، وبهذا، فإن الأمر يشبه الآليات المستعملة في نظرية التي تعد من آخر المسائل التي نادى بها علم اللغة، الأفضلية الوصفي. ويحضر في النص من خلال:
                                     * الإحالة:

وتقسم الإحالات على قسمينالإحالة المقامية، وهي ما يمكن أن يحيل إليه خارج الّنص، ويشمل علاقة المفردة والتركيب بالعالم الخارجي، والإحالة النصية التي نلتمسها داخل الّنص وتكون إما (قبلية أوبعدية). سنعيد كتابة النص من جديد، لكن هذه المرة مع استقصاء تام لإحالاته:
رحلَ النَّهار
ها إنه (النهار) انطفأتْ ذبالتُ (النهار) على أفقٍ توهجَ دونَ نار
و جلستِ (أنت) تنتظرين (أنت) عودةَ سندباد من السّفار
و البحرُ يصرخُ من ورائِك (أنت) ، بالعواصفِ و الرعود
هو (السندباد) لن يعود !أو ما علمتِ (أنت) بأن (السندباد) أسرته آلهة البحار
في قلعةٍ سوداء في جزرٍ من الدمِ و المحار
هو (السندباد) لن يعود ..رحل النهار
فلترحلي (أنت) ، هو(لاسندباد) لن يعود !
-*-*-*-*
الأفق غاباتٌ من الأفقِ الثقيلة و الرعود
الموتُ من أثمارهن (الغابات) و بعض أرمدة النهار
الموتُ من أمطارهن (الغابات) ، و بعض أرمدة النهار
الخوف من ألوانهن (الغابات) .. و بعض أرمدة النهار
رحل النهار
رحل النهار .
-*-*-*-*-
و كأن معصمكِ (أنت) اليسار
و كأن ساعدكِ (أنت) اليسار ، وراء ساعته  (السندباد).. فنار
في شاطئٍ للموت يحلم (السندباد)  بالسفين على انتظار
رحل النهار
هيهات أن يقف الزمان ، تمر حتى باللحود
خطى الزمان و بالحجار
رحل النهار و لن يعود (السندباد) .
-*-*-*-*-
الأفق غاباتٌ من السحب الثقيلة و الرعود
الموتُ من أثمارهن (الغابات) و بعض أرمدة النهار
الموتُ من أمطارهن  (الغابات)، و بعض أرمدة النهار
الخوف من ألوانهن(الغابات) .. و بعض أرمدة النهار
رحل النهار
رحل النهار
خصلات شعرك(أنت) لم يصنها (خصلات شعرك) سندباد من الدمار
شربت (هي) أجاج الماء حتى شاب أشقرها (هي) و غار
و رسائل الحب الكثار مبتلة بالماء منطمسٌ فيها (الرسائل) ألق الوعود

و جلستِ ( أنت) تنتظرين (أنت) هائمة الخواطر في دوار :
سيعود (هو: السندباد) ، لا .. غرق السفين من المحيط إلى القرار
سيعود (هو السندباد) ، لا .. حجزتهُ (هو: السندباد) صارخة العواصف في إسار
يا سندباد .. أما تعود ؟
كان الشباب يزول ، تنطفئ الزنابق في الخدود
فمتى تعود (أنت:السندباد) ؟
أوّاه .. مدّ يديك (أنت: السندباد) بين القلب عالم الجديد
 يبني بهما (هما: اليدين) و يحْطم عالم الدم و الأظافر و السعار
يبني .. و لو لهنيهة دنياه ..آهٍ .. متى تعود (أنت: السندباد) ؟
أترى ستعرف (أنت) ما سيعرف (هو: السندباد) ، كلما انطفأ النهار
صمتُ الأصابعِ من بروق الغيب في ظلم الوجودِ
دعني (أنا) لآخذ قبضتيك(أنت) ، كماء ثلجٍ في انهمار
من حيثما وجهت(أنا) طرفي (أنا) .. ماء ثلج في انهمار
في راحتيّ(أنا) يسيل .. في قلبي (أنا) يصبّ (هو) إلى القرار
يا طالما بهما (قبضتيك) حلمتُ (أنا) كزهرتين (القبضتين) على غدير
تتفتحان(هما القبضتين) على متاهة عزلتي (أنا) "رحل النهار ..
-*-*-*-*-
و البحر متسعٌ و خاوٍ ، لا غناء (فيه) سوى الهدير
و ما يبين سوى شراعٍ رنحته (هو: السندباد) العاصفات .. و ما يطير
إلا فؤادك (أنت) فوق سطح الماء يخفق (هو الفؤاد) في انتظار
رحل النهار ..فلترحلي (أنت)

النص غني بالإحالات وقد أسهمت إلى حد كبير في اتساق النص، وذلك من خلال:
R الإحالة المقامية: تحيل إلى خارج النص.
وتحضر الإحالة المقامية  في النص، من خلال توظيف ضمير المخاطب (ك) يحيل إلى وهو يعود على (زوجة أو حبيية الشاعر):
والبحر يصرخ من ورائك (أنتِ)
وكأن ساعدكِ (أنتِ) اليسار
وكأن معصمكِ (أنت) اليسار
دعيني لآخذ قبضتيكِ (أنتِ)
وما يطير إلا فؤادكِ (أنتِ)



Rالإحالة النصية:
أ‌)       - إحالة قبلية : و تحيل إلى السابق.
رحل النهار
ها إنه قد انطفأت ذبالته (ها إن النهار قد انطفأت ذبالته) (هـ) عائدة على النهار.
الأفق غابات من الأفق الثقيلة والرعود
الموت من أثمار (الغابات) وبعض أرمدة النهار
الموت من (أمطار الغابات) وبعض أرمدة النهار
الموت من (أمطار الغابات) وبعض أرمدة النهار

ب‌)   - إحالة بعدية: وتحيل إلى اللاحق.
هيهات أن يقف الزمان   ( من يقف؟ الزمن. أن الوقوف يحيل إلى ملفوظ بعدي).
تنطفئ الزنابق في الخدود    (ما التي تنطفئ؟ الزنابق، أي أن الفعل يحيل إلى ملفوظ آتي).

                    * الاستبدال:
     يعتبر الاستبدال حسب نظرية هاليداي، عملية تتم داخل النص لا من خارجه، فيعوض عنصر من عناصر النص بعنصر آخر منه أيضاً، مما يعني أن الاستبدال يمّثلُ شكلاً من أشكال العلاقات النصية القبلية، فالعنصر المتأخر يكون بديلاً لعنصرٍ متقدمٍ مما يفضي إلى تماسك النص واتِّساقه[1]، ومع هذا فقد بدا النص لا يحتفل به إلا احتفالاً محدوداً جداً، ومن الأمثلة النادرة:
وجلست تنتظرين عودة سندباد من السفار
وكأن ساعدك اليسارظن وراء ساعته فنار
في شاطئ للموت يحلم بالسفين على انتظار
وهذا النوع من الاستبدال، يطلق عليه الاستبدال الاسمي وهو الأكثر حضورا في النص ، وقد أُحدث بين كلمتي (سندباد) و (السفين)، وكلاهما له نفس الدلالة، لذا عوض الثاني منهما بالأول.

                      * الحذف:
    الحذف من العلاقات الداخلية المهمة، التي تسهم في تسخير الطاقات التعبيرية للغة، إذ يعد إحالة قبلية، وينقسم الحذف من هذه الجهة إلى ثلاثة أقسامالاسمي والفعلي والقولي، كما هو الحال في قسمة هاليداي ورقية حسن لاستبدال[2]، وقد ظهر هذا العنصر في عدد من المواضع في النص، ومن أمثلة الحذف الفعلي الموجودة في النص:
جلستِ تنتظرين عودة سندباد من السفار
والبحر يصرخ من ورائك بالعواصف والرعود
فقد حذف الفعل (جلست) استغناء بحرف الربط (الواو العاطفة)، وأصل الجملة : (جلست والبحر من ورائك بالعواصف والرعود).
- ومن نماذج الحذف الإسمي مثل:
والبحر متسع وخاو
حذف (البحر)، وعوض بحرف العطف (الواو). وأصل الجملة: ( والبحر متسع، والبحر خاو).
ومثال الحذف القولي:  استخدام الشاعر لتقنية السواد والبياض، أو ما يسمى بالفضاء البصري للنص. فتبدى ذلك في قول السياب:
ها إنهُ انطفأتْ ذبالتُهُ على أفقٍ توهجَ دونَ نار
و جلستِ تنتظرين عودةَ سندباد من السّفار
و البحرُ يصرخُ من ورائِك ، بالعواصفِ و الرعود
هو لن يعود

إن استعمال التموج في هذه الأسطر الشعرية، واختلافها طولا وقصرا (تبعا للدفقة الشعورية للشاعر)، يوحي بوجود محذوف هو مذكور في السطر الثاني:
والبحر يصرخ من ورائك، بالعواصف والرعود
(سندباد) لن يعود
أي إن الشاعر حمّل تقنية التموج بعدين: الأول منهما دلالي، والثاني تركيبي، تمثل في هذا النوع من الإحالات.
                 * الوصل:

      تقنية الوصل من أهم التقنيات التي تؤكِّد اتِّساق الخطاب من عدمه، وفي الدراسات البلاغية هو الوصل بين الجمل أو عطف بعضها على بعض، وينقسم من حيث التجسد في النص إلى قسمينما يكون واضحاً بنفسه ويّتضح من خلال وسائل تركيبية ممثَّلة بأحرف العطف، والثاني ضمني يتم من خلال تجاور محدود، وبسيط بين الكلمات، يفهم من السياق[3].

                        µ  الوصل الإضافي:

     تكرر هذا النوع من الوصل في قصيدة  "رحل النهار" سبعاً وعشرين مرة، تناوب فيها حرفا العطف (الفاء والواو )، فقد وردت الواو عشرين مرة: (وجلست تنتظرين، والبحر يصرخ، ورسائل الحب...) في حين وردت الفاء مرتين : (فلترحلي، فمتى تعود) ، ولا نود أن نورد كثيرا من  الأمثلة على استعمال الواو أو الفاء، فهي كثيرة، ولكننا نقول إن أثر الواو أو الفاء كان أثراً فاعلاً في اّتساق النص،إذ ربط بين العناصر التركيبية المكونة للنص، كما حمل بعض هذه العناصر دلالات كبيرة، وزيادة على هذا، فقد أدى إلى اتَّساق مكوناته التركيبية، وترابطها فيما بينها.
               µ   الوصل العكسي:
    أكثر ما يستعمل في هذه الآلية من آليات الاّتساق هو أداة الإضراب، ويدخل في باب التضام من الاتِّساق المعجمي أيضاً، وقد جاء في النص في أكثر من موضع، ومن أمثلته الدالة:
وجلست تنتظرين عودة السندباد من البحار...
هو لن يعود
    فقد قام بتوظيف الحرف  (لن) لوصل الجملة الأولى " وجلست تنتظرين " بجملة "هو لن يعود  وهو عنصر يزيد من اشتعال دلالة التحدي، أكثر مما كان سيفعل ربط النسق باستعمال حرف النسق الواو العاطفة.
                * الوصل السببي:
     وهو الوصل باستخدام إحدى أدوات التعليل أو السببية، مثل (بسبب، لعل...) وقد استثمر الشاعر بدر شاكر السياب، أداة أخرى من أجل الربط السببي، وهي (حتى) وذلك في قوله:
شربت أجاج الماء، حتى شاب أشقرها وغار
فنتيجة لشربها أجاج الماء ، أبيض أشقر شعرها وغار.

* الاتِّساق المعجمي:
ينقسم الاتِّساق المعجمي، إلى قسمين: التكرير، التضام.
             * التكرير:
    فالتكرير يعني تكرار عنصر من العناصر المعجمية الاستعمالية بعينه، أو بمرادفه، أو ما يشبه مرادفه في النص الأدبي[4]. ويمكن لهذا التكرار أن يخدم النص الشعري عن طريق إغناء الجانب التعبيري، لأن تكرار أي نمط لغوي يعني أن هذا العنصر ذو دور مهم في النص، مما يعني في النهاية سيطرته على جانب معين منه، واهتمام صاحب النص الشعري به، يعني  سيطرته على الدفقات الشعورية التي حكمت إنتاج النص، ولا سيما المقطوعة التي  احتفلت بتكراره.
وقد كان التكرار من أكثر أدوات الاّتساق المعجمي دوراناً في نص "رحل النهار"، إذ ورد فيه التكرار بأشكاله جميعها  تكرير الحروف، وتكرير الأفعال، والأسماء، وتكرير الجمل:
      - تكرار الجمل:
يكرر الشاعر جملا بحد ذاتها مثل:
هو لن يعود
وهنا إسناد خبري، حيث أن المسند إليه هو الضمير (هو)، والمسند شبه الجملة (لن يعود).
رحل النهار
وقد كررت هذه الجملة في قصيدته عشر مرات. وهذا كما هو معروف أسلوب الإسناد الخبري، حيث أن المسند إليه النهار؛ والمسند هو الفعل رحل.
ومن الجمل ما تتطور بعض كلماتها وتتغير، حتى تحدث في العبارة هزة ومفاجأة:
الموت من أثمارهن، وبعض أرمدة النهار
الموت من أمطارهن، وبعض أرمدة النهار
الخوف من ألوانهن، وبعض أرمدة النهار.

      يطلب الشاعر من زوجته في هذه القصيدة الرحيل لأنه لن يعود، فهو سائر في رحلة الموت، بعد أن تغلب عليه المرض، وجميع الدلائل في الأفق توحي بعدم عودته، بل توحي بوجود كوارث ثمرتها الموت والرماد.
- تكرار الكلمات: الموت، النهار، البحار، السندباد....هذه الكلمات تصب في منحى واحد، وهو التعبير عن نفسية الشاعر المتأزمة بعدما فتك به المرض.
     وقد استبعدنا تكرار الحروف البنائية ودلالتها من الدراسة؛ لاعتقادنا بأن التحليل إلى المكونات البنائية سينحو بنا إلى إلغاء خصوصية تحليل الخطاب بصورته الكلية، لصالح الصورة التي تهدم الدلالة، ولا تقدم شيئاً يخدم الدلالة الكلية التي تقدمها آليات تحليل الخطاب. كما نشير أيضاً إلى أن التكرار يمكن أن يقدم فائدة كبيرة للنص إذا أخذناه من زاوية عناصر الانسجام، أكثر من كونه عنصراً من عناصر الاتِّساق، وإن قدم فائدة في الاتِّساق النصي.

                   * التضام:
       التَّضام يعني توارد زوج من الكلمات بالفعل أو بالقوة، نظراً إلى ارتباطهما بحكم علاقة من العلاقات، والعلاقة النسقية التي تحكم هذا التزاوج في خطاب ما، هي علاقة التعارض أو التَّضاد...[5]، وقد ورد هذا النوع من عناصر الاتِّساق في موضعين اثنين، من قصيدة " رحل النهار" ففي السطر الشعري:
ها إنه انطفأت ذبالته على أفق توهج دون نار
إذا اجتمع فيها المتناقضان من الأمور، (انطفأت/ توهج)، وهما على الرغم من الترافق المعجمي الذي يقبل المصاحبة بينهما، على المستوى اللغوي الاعتيادي، غير أنهما متناقضان، فالانطفاء عكس التوهج.
وكذلك:   مد يديك بين القلب عالم جديد
بهما ويحطم عالم الدم والأظافر والسعار
يبني ... ولو لهنيهة دنياه
إن مواجهة الموت بوعي الشاعر، بات أمرا مستحيلا، ما دام الموت مصيرا محتوما، وقريب التحقق، فإنه يتمنى أن يبني عالمه كما يتصوره هو، أو كما أراده هو، ولو للحظات، قبل الرحيل.

2- انسجام الخطاب:
  ومن هنا فإننا سنحاول في هذا الجزء من الدراسة، أن نبحث في آليات الانسجام التي وجدت في النص، وهي: البنية الكلية (موضوع الخطاب)، الوعي بالعالم، التشتت والفراغ والانقطاع.

                * البنية الكلية :
     يمكن القول إن البنية الكلية هي الأساس في فهم النص وانسجامه ،انطلاقاً من الوظيفة التي يقوم على تأديتها، باعتباره أداة إجرائية وبنية دلالية تختزل الإخبار الدلالي وتنظِّمه وتصنِّفُه، وموضوع الخطاب أو البنية الكلية ، هي المبدأ المركزي المنظم لقدر كبير منه، وهو القضية التي تحظى باهتمام مباشر[6]، وقد اخترتنا بعض القضايا التي تحدد البنية الكلية للنص في هذه الدراسة، ومنها:
                            - التغريض:
     إذا كان مفهوم التغريض ذو علاقة وثيقة مع موضوع الخطاب، ومع عنوان النص. فإن العلاقة بين العنوان وموضوع الخطاب هو كون الأول تعبيرا ممكنا عن الموضوع.
    من أهم أدوات فك شفرات النص في العادة العنوان، ونحن عندما نفتح باب هذه المسألة لا ننظر إلى العنوان الذي وضع دون وعي، بل نحن ننظر إلى العنوان الذي يفك طلاسم النص التي قد تكون موجودة فيه، وهو ما يمكن أن يساعد على تأويل النص، إذ هو في واجهته، فهو على هذا أول لقاءٍ بين المبدع والمتلقي قبل الدخول في النص نفسه.
      وعنوان نصنا هذا هو "رحل النهار" يصرح السياب من خلاله، بحقيقة الفاجع. فالرحيل  هنا من نوع آخر، ويقصد به الشاعر اقتراب مصيره المحتوم، وهو الموت. ولقد جاء هذا العنوان كلازمة تكررت مرارا بين ثنايا القصيدة، دلالة وتأكيدا على نهاية زيارته لهذه الدنيا الفانية، وانتقاله إلى دنيا البقاء، فما هو في هذه الحياة إلا بغريب، وما على الغريب إلا الرحيل.
      وقد تم التغريض داخل النص من خلال: استمرار الإحالة إلى ذات الشاعر ( السندباد) بضمير غائب مستتر تارة، وبارز متصل أو منفصل تارة أخرى. وبالحالة الشعورية المتأرجحة بين الحزن والألم والمعاناة.
                                 - المعرفة الخلفية (معرفة العالم) :
    من المعلوم أن القارئ حين يواجه خطابا ما، لا يواجهه وهو خاوي الوفاض، وإنما يستعين بتجاربه السابقة، بمعنى أنه لا يواجهه وهو خالي الذهن، أي أنه يعتمد على تراكم المعارف التي تجمعت لديه. ومن ثم فإن فهم الخطاب يعد بالأساس عملية سحب للمعلومات من الذاكرة، وربطها مع الخطاب المواجه.[7]
يُقال أن وراء قصيدة بدر شاكر السياب، قصة محزنة، ومفادها أنه عندما مرض، وأقعده المرض في المستشفى، أحب ممرضه لبنانية ذات شعر أشقر، كانت تقوم على خدمة كما أحبته الممرضة، وأعطته خلصة شعر من شعرها الأشقر فاحتفظ بهذه الخصلة في كتاب عنده، وأثناء تواجد زوجته معه، اكتشفت صدفة تلك الخصلة وعرفت أنها تعود للمرضة، فغضبت وقررت أن ترميها في البحر وهو يناشدها. ولكن ما باليد حيلة ورآها تغرق أمامه في البحر، ولم يجد ما يعزي به نفسه بفقدان تلك الخصلة الغالية على قلبه، إلا أبيات شعر كُن من أجمل ما قيل في الشعر.
   ولعل السندباد، الذي قام بسبع رحلات امتلأت بالغرائب والعجائب، قد صار هذا السندباد رمزاً للجوال في الآفاق، الذي يقوم برحلاته المتكررة عبر المجهول، والسياب في هذه القصيدة يستعير ملامح السندباد لشخصيته، ويطلب من زوجته أو من غيرها، ممن يعلقون الآمال على عودته، عدم الانتظار لأن السندباد لن يعود هذه المرة.رحل النهار
ها إنه انطفأت ذبالته على أفق توهج دون نار
وجلست تنتظرين عودة سندباد من السفار
والبحر يصرخ من ورائك بالعواصف والرعود
هولن يعود
ويطلب من زوجته الرحيل لأنه لن يعود، فهو سائر في رحلة الموت بعد أن تغلب عليه المرض، وجميع الدلائل في الأفق توحي بعدم عودته، بل توحي بوجود كوارث ثمرتها الموت والرماد:
هولن يعود .. رحل النهار
فلترحلي، هو لن يعود ...الأفق غابات من السحب الثقيلة والرعود
والموت من أثمارهن وبعض أرمدة النهار
رحل النهار.ولم تفقد الأمل في عودته، وظلت على مرّ الزمان تنقض ما تغزل حتى عاد زوجها، أما سندباد فإن أصحابه وأصدقاءه هم الذين كانوا ينتظرون عودته من كل رحله محملاً بالخيرات والأحاديث المثيرة والأعاجيب التي صادفها في رحلته، ويسرد الشاعر تساؤلات الزوجة وقلقها وخوفها من زوال شبابها سيعود، لا ،غرق السفين من المحيط إلى القرار
سيعود، لا، حجزته صارخة العواصف في أسار
يا سندباد، أما تعود؟
كاد الشباب يزول، تنطفيء الزنابق في الخدود
فمتى تعود؟ ...آه فمتى تعود؟
والشاعر تصرف في قناعة السندباد، وحمله بعداً جديداً هو عدم العودة من الرحلة هذه المرة، إشارة إلى انقطاع أمله في العودة إلى حياة الاستقرار، وفقدان الأمل في العودة بسبب تغلب المرض عليه، ويلحّ على عدم الجدوى من الانتظار رحل النهار
فلترحلي، رحل النهار

الموت من أثمارهن وبعض أرمدة النهار
الموت من أمطارهن وبعض أرمدة النهار
الخوف من ألوانهن وبعض أرمدة النهار"سندباد السياب المسافر يفقد كل آماله بالعودة الظافرة ، وينطفىء الشعاع الذي ينير له رحلة الكشف والمغامرة بفعل المؤثرات الخارجية القاسية . "ولم يكن هكذا السندباد القديم ، ولكن لا غرابة في أن يكون، فهكذا رآه الشاعر، أو رأى نفسه فيه . إنّ رحلته ليست رحلة كشف ومغامرة، يعود بعدها بالطُرف الفريدة كما كان شأن السندباد، ولكنها رحلة في عالم الضباب والمجهول ، رحلة لا عودة منها " وإذا كان للأسطورة وظيفة نفسية ترتبط بأحلام البشر، وتصوراتهم الرمزية لأشياء، أو حيوانات خرافية تومئ إلى تجاربهم النفسية في الحياة، ومخاوفهم وآمالهم. فإن استخدام السّيّاب لأسطورة السندباد هنا في هذه القصيدة، يعتبر تجسيداً واعياً لتجربته الطويلة مع المرض، ورحلة الإحباط التي رافقته طيلة سنواته الأخيرة .‏
يرتحل السندباد من مدينة إلى مدينة ، ويلاقي أهوالاً كثيرة ، وبالرغم من هذه المصاعب التي تصل حدّ الموت ، يبقى هناك قنديل سريّ أسطوري يشعل اللحظة ويضيء الفتيلة ، وعلى ضوء هذه الفتيلة كانت تلوح طريق العودة، التي يصر الراوي في ألف ليلة وليلة على أن تكون دائما مكللة بالظفر والأموال والجواهر، بالرغم من مدّ الشدائد والأهوال والبحار.
وينتقل السيّاب من مشفى إلى مشفى حاملاً قروحه وآلامه وغربته ويأسه، من العراق إلى مشفى الجامعة الأمريكية ببيروت، في 8 نيسان 1962، إلى مشفى سانت ماري في لندن في 21 كانون الأول 1962، وإلى مشفى دي لاسا لبتريير في باريس، ثم عودة إلى مشفى الموانىء في البصرة، ثم إلى أحد مستشفيات بغداد ، ثم إلى المشفى الأميري بالكويت حيث وفاته يوم الخميس الموافق للرابع والعشرين من كانون الأول 1964 ، ينتقل فاقداً الأمل في شفائه، وتبدو قصيدته "رحل النهار" تجربة مريرة مع هذا الإنتقال.     
السندباد الأسطورة يعود ظافراً ، أما السندباد السيّاب فلا رجاء بعودته . إذ تضيق فسحة أمله مع مرضه الذي يبدو أسطورياً هو الآخر ، ليس في حالته السحرية بل في حالته المأساوية ، إذ تتعدد هذه الحالات ليصبح المرض عدة أمراض، فتغيب الرؤى المشرقة من القصيدة ، وتتكسر على صفحة البحر الهائج رعوداً وعواصف. ويصبح الأفق ، الفضاء الممتد الذي يشير رمزياً في حالته الجمالية إلى الأمل والنور والخلاص، يصبح عند السيّاب في حالته المرضية سحباً ثقيلة، وخوفاً، وموتاً :‏

"
الأفق غابات من السحب الثقيلة والرعود،‏
الموت من أثمارهن وبعض أرمدة النهار‏
الموت من أمطارهن وبعض أرمدة النهار‏
الخوف من ألوانهنّ وبعض أرمدة النهار‏
رحل النهار.‏
رحل النهار"ويأخذ الموت في أعمال السيّاب الأخيرة ، وبخاصة تلك الأعمال التي أنجزت بين عام 1962 إلى حين وفاة السّاب عام 1964 - وهي فترة مرض السيّاب الشديدة - يأخذ حيزاً واسعاً، حيث يصبح ظاهرة متجذّرة ، تحول حياة السيّاب إلى هواجس، وهذيانات ، وكوابيس، وهموم يومية ." إن فضاء الموت يستحوذ على الشعر المعاصر ، عبر الثنائيات الخفيّة يتسرب ، وفي المشهد الشعري يسكن (..) إن الموت محور شعري أساساً، تمتد جذوره إلى ملحمة جلجامش ، وهو يسكن الفعل الشعري بما هو فعل كوني تتجاوب فيه الشعوب، بعيدها وقريبها. كرحم تعيد فيه التجربة الشعرية على الدوام مساءلة العالم فيما هي تعيد مساءلة ذاتها، أنطولوجياً وإجتماعياً - تاريخياً "إن فعل الموت عند السيّاب يرتبط بتجربة خاصة منذ وفاة والدته، حتى وفاة والده في أوائل أيار 1963، إذ لم يستطع أن يذهب إلى المسجد لحضور جنازته، بسبب فقدان السيّاب التام للقدرة على المشي، وسيتعمق تأثير هذا الفعل في قصائده التي ذكرت هذا الفعل وصّورته وحشاً يفترس الأماني والأحلام ،" وكان اهتمام بدر بمشكلة الموت يزيد حدّة بانحدار صحته المتواصل. وكان يشعر بضعف جسده أمام حياة لا ترأف به ولا تقلل من‏ طلباتها. كان في السابق يرى الموت قوة فداء ووسيلة خلاص تؤديان إلى حياة موفورة فضلى. أما الآن فبدأ يشعر أنه مشكلة شخصية بكل ما للتجربة الفردية من صميمية ويقين . كان الموت الآن ، موته هو ، لا موت الآخرين. كان موته وحده ولا يستطيع الآخرون مساعدته - بل إنّ الآخرين مضوا في لامبالاة يتابعون شؤون حياتهم.
أمام تأثير فعل الموت نجد أن سندباد السيّاب في هذه القصيدة "رحل النهار" مسجون في قلعة سوداء نائية في جزر بعيدة، تجتاحها العواصف المدمّرة التي ستغرق سفينته إلى القرار، وهذه القلعة هي الأخرى تتأثر بهذا الفعل إذ أنها تغرق في الدم ، وهي هنا تشير رمزياً إلى الكون المصغّر الذي يعيشه السيّاب ، إنه الكون المحكوم بالفشل في الحب والشفاء، والأمل على المستوى الشخصي، وعلى المستوى العام في علاقته مع الحياة الإجتماعية والسياسية في تاريخ العراق . يقول في نفس القصيدة :‏

"
خصلات شعرك لم يصنها سندباد من الدمار،‏
شربت أجاج الماء حتى شاب أشقرها وغار‏
ورسائل الحب الكثار‏
مبتلة بالماء منطمسٌ بها ألق الوعود‏
وجلست تنتظرين هائمة الخواطر في دوار:‏
سيعود .لا. حجزته صارخة العواصف في إسار‏
ياسندباد، أما تعود؟‏
كاد الشباب يزول ، تنطفىء الزنابق في الخدود‏
فمتى تعود؟‏
أواه، مدّ يديك يبن القلب عالمه الجديد‏
بهما ويحطم عالم الدم والأظافر والسعار،‏
يبني ولو لهنيهة دنياه‏
آه متى تعود؟"إن المقطع الشعري:" خصلات شعرك لم يصنها سندباد من الدمار...حتى ألق الوعود " يشير إلى تجربة خاصة عاشها السيّاب مع ممرضة لبنانية شابة وجميلة اسمها ليلى، أحضرتها له زوجة الدكتور زويتش الذي أشرف على علاج السّيّاب في بيروت ، بعد أن خرج من مشفى الجامعة الأمريكية ببيروت، إذ كانت هذه الممرضة تلازم بدراً في فندق سان بول ببيروت، من الساعة السابعة صباحاً إلى التاسعة مساء ، وهذه الممرضة ستترك أثراً عميقاً في حياته وبعض أعماله الشعرية بعد أن يغادر بيروت، " وكانت الممرضة الجميلة ليلى تلازمه في وحدته ووحشته، وكانت تعتني به جيداً وتعطف عليه . فبدأ بالتدريج يشعر بجاذبية نحوها . فتبادل وإياها كلمات وديّة فيها تفاهم عميق . وصار يفكر بها ليلاً وينتظر عودتها بشوق كل صباح ، وقد أعطته هي خصلات من شعرها الأشقر وبعض رسائل حبها ليقرأها. ولم ترد أن تخيّب أمله وجعلها شعورها بواجبها المهني تواصل خدمته. لكن امرأة زويتش تقول إنّ ليلى شكت لها أنّ بدراً أسرّ إليها بأنه ينوي أن يتزوجها.‏
ليس غريباً أن تكون " خصلات الشعر"، ورسائل الحب التي ذكرتها القصيدة ، هي تلك التي أهدتها له الممرضة ليلى وقد تكون تشير إلى ذكرياته مع السيدة إقبال زوجته في البصرة ، وربما إلى سيدة أخرى وربما إلى حالة أو ذكرى خاصة في حياة السيّاب لا يعرفها إلا هو .‏
وهنا يمكن القول :" إنه ليس هناك إطار معرفي واحد يصلح لتفسير جميع النصوص ، وذلك لأنّ النصوص نفسها ، بوصفها أبنية معرفية تتصل اتصالاً وثيقاً بالعالم الخارجي، إما عن طريق الإحالة المباشرة ، أو عن طريق التشويش المتعمد لهذه الإحالة . كذلك قد يفرز النص أحياناً دلالات لا يستطيع المفسّر احتواءها داخل إطاره المعرفي ، وتتطلب إطاراً معرفياً آخر . وعلى هذا يمكننا أن نقول إنه ليس هناك معايير عالمية ثابتة لتفسير النصوص وشرح دلالاتها كلها ".‏
يغرب النهار، ويصرّح السيّاب بحقيقة الفاجع، مثقلاً بالأحزان، طالباً من المرأة أن تنساه وترحل ولكن المرأة الوفية تنتظر الفارس القادم من وراء المحيطات مادّاً يديه، ليعود شبابها إليها، وليبني قلبها عالمه الجديد ، بعد طول انتظار، إنها تنتظره في زمن أسود ، زمن يفقدها شبابها ونضارتها ، والفعل السندبادي هو الآخر لا يستطيع أن يحافظ على نضارتها، باعتباره فعلاً ملغى ومنهكاً على المستوى الصحي، ومقموعاً على المستوى السياسي إنه زمن المرارة ، زمن الإنتظار المالح، الذي تفقد فيه المرأة بريقها الأنثوي، فيغور شعرها، ويغزوه الشيب في عزّ الصبا حزناً على السندباد الغائب.و قد كان السيّاب بحكم موقعه الزمني شديد البحث عن الرمز لا يهدأ له بال، وكانت حاجته إلى الرموز قوية بسبب نشوبه في أزمات وتقلبات نفسية وجسمية ، وبسبب التغيرات العنيفة في المسرح السياسي بالعراق ، حينئذ، ولهذا يصلح أن يكون السيّاب نموذجاً للشاعر الذي يطلب الرمز في قلق من يبحث عن مهدىء لأعصابه المستفزة، فهو يتصيده حيثما وجده.‏
إن توظيف أسطورة السندباد عند السيّاب يأخذ منحى إنسانياً جديداً في عمق دلالته ، إذ يأخذ السندباد عنده شكلاً وموقفاً مغايراً لما هو عليه في الأسطورة . وكثيراً ما يساهم إحساس الشاعر الجمالي بحركية الأبطال الأسطوريين وطبيعة مواقفهم الفكرية، بالتدليل على مآسي الإنسان المعاصر ، ومآسي الشاعر نفسه ، الذي يتخذ من الرمز الأسطوري قناعاً له في كثير من الأحيان. وقد يغير الشاعر من هذه المواقف فيضيف إليها ويحذف منها ، ويشكلها تشكيلاً جديداً وفق رؤيته الخاصة، التي تناسب موقفاً ما يريد أن يبرزه داخل نصّه الشعري .‏
في ألف ليلة وليلة ، يحقق السندباد - الأسطورة- لأسرته وزوجته كل ما تمنته ورغبت فيه من طمأنينة وأمان نفسي ، وقصر فسيح، وخدم ، وعودته إلى بغداد عودة الظافر ، وتوجهت إلى مدينة بغداد دار السلام ، ومعي من الحمول والمتاع والأسباب شيء كثير له قيمة عظيمة، ثم جئت إلى حارتي ودخلت بيتي وقد جاء جميع أهلي وأصحابي، ثم إني اشتريت لي خدماً وحشماً ومماليك وسراري وعبيداً حتى صار عندي شيء كثير،‏
واشتريت لي دوراً وأماكن وعقاراً أكثر من الأول، أما السندباد المعاصر - السيّاب فإنه لم يحقق التوق وشعلة الحنين المتفجرة عند المرأة، نحو الحبّ والأمان والرجل الغائب، لأنّ زمن السيّاب الفاجع يقف محبطاً أمنية المرأة وحلمها، فتغيب إشراقتها المتألقة، وتفقد الوعود الجميلة بريقها بعدم تحققها ، وتذوب رسائل الحبّ بماء البحر المالح ، ويطفىء الزمن توهج الحلم .وحين تشعر المرأة أنها على حافة الزمان، فإن رغبتها في التواصل الإنساني مع الرجل الغائب تدفعها للتعلق ولوببصيص من نور ، فتعيش على هذا الحلم الذي يبرد أعماقها المجروحة ، وتمني نفسها بعودته . ثمة عاصفة أسرته وحجزته بعيداً ، لكنها لن تدوم ، ولها أمل في عودته الظافرة . إنّ حضوره يشعل اللحظة ، ويجدد الحياة ، ويبعثها من جديد ، ويعيد لها طاقاتها الجمالية ، وحينما تمسك قبضتيه ، يعمّ الخصب والنماء ، ويتجدد القلب :‏

"
دعني لآخذ قبضتيك كماء ثلج في إنهمار‏
من حيثما وجهت طرفي .. ماء ثلج في انهمار‏
في راحتي يسيل ، في قلبي يصب إلى القرار‏
يا طالما بهما حلمت كزهرتين على غدير‏
تتفتحان على متاهة عزلتي ."‏
ومن خلال حالة السياب الصحية والنفسية ، وفشله من خلال مرضه الطويل يمكننا فهم السبب الذي جعله يلغي عودة البطل الأسطوري ، وبالتالي غياب السندباد ، وتمزق شراع سفينته . ونستطيع فهم هذه السمفونية الكئيبة التي يتكرر العزف عليها من خلال دلالة اللغة وإيحاءاتها . إن السندباد الذي " يستخدمه الشاعر نموذجاً للملاح الذي يجوب الآفاق فلا تستقرّ به دار ،(..) لا يعني إلا نفسه ".‏
إن فهم السيّاب الواعي لأسطورة السندباد وطاقاتها التعبيرية ، حقق له قدرة على إعادة صياغتها ، وفق رؤية شعرية ذاتيه ، جسدت تجربته الإنسانية المعاصرة ومعاناته مع المرض واليأس والغربة والإرتحال من بلد إلى بلد طلباً للشفاء .و" لا مراء في أنّ المحدثين قد برع منهم نفر في استخدام الرمز واستخدام الأسطورة بما لم يتح لأحد من التقليديين ، وإن شئت فانظر إلى شعر الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب وتنتهي القصيدة لتؤكد حسّ الفاجع المأساوي عند بدر شاكر السيّاب ، فالبحر متسع وخاو ولا أثر للسندباد . وحده الشراع الممزق يترنح فوق صفحة الماء، فلترحلي أيتها المرأة، ولا جدوى من الانتظار بعد أن فقد السندباد كل آماله بالشفاء والعودة الظافرة إلى جيكور والبصرة .‏

"
رحل النهار‏
والبحر متسع وخاو لا غناء سوى الهدير‏
وما يبين سوى شراع رنّحته العاصفات ، وما يطير‏
إلا فؤادك فوق سطح الماء يخفق في انتظار‏
رحل النهار‏
فلترحلي ، رحل النهار"ويمكن أن يكشف فضاء النص الشعري السابق عن استفادة الشاعر بدر شاكر السيّاب من الأسطورة اليونانية “ أوديس “ أو عوليس وزوجته " بنلوب" باعتبار أوديس رمزاً للجواب المغامر ، وباعتبار بنلوب رمزاً لزوجته الوفيه التي تنتظره على شاطىء البحر، لأن ثمة ملامح مشتركة بين السندباد وبين أوديس، وتتداخل هاتان الأسطورتان في الخطاب الشعري العربي المعاصر تداخلاً واضحاً ، حتى يبدو إيجاد الفرق بينهما من حيث الدلالة والرؤية الشعرية صعباً جداً .‏
من خلال حالة السياب الصحية والنفسية ، وفشله من خلال مرضه الطويل يمكننا فهم السبب الذي جعله يلغي عودة البطل الأسطوري ، وبالتالي غياب السندباد ، وتمزق شراع سفينته . ونستطيع فهم هذه السمفونية الكئيبة التي يتكرر العزف عليها من خلال دلالة اللغة وإيحاءاتها . إن السندباد الذي " يستخدمه الشاعر نموذجاً للملاح الذي يجوب الآفاق فلا تستقرّ به دار ،(..) لا يعني إلا نفسه.
إن فهم السيّاب الواعي لأسطورة السندباد وطاقاتها التعبيرية ، حقق له قدرة على إعادة صياغتها ، وفق رؤية شعرية ذاتيه ، جسدت تجربته الإنسانية المعاصرة ومعاناته مع المرض واليأس والغربة والارتحال من بلد إلى بلد طلباً للشفاء .و" لا مراء في أنّ المحدثين قد برع منهم نفر في استخدام الرمز واستخدام الأسطورة بما لم يتح لأحد من التقليديين ، وإن شئت فانظر إلى شعر الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب
وتنتهي القصيدة لتؤكد حسّ الفاجع المأساوي عند بدر شاكر السيّاب ، فالبحر متسع وخاو ولا أثر للسندباد . وحده الشراع الممزق يترنح فوق صفحة الماء، فلترحلي أيتها المرأة، ولا جدوى من الانتظار بعد أن فقد السندباد كل آماله بالشفاء والعودة الظافرة إلى جيكور والبصرة .‏

"
رحل النهار‏
والبحر متسع وخاو لا غناء سوى الهدير‏
وما يبين سوى شراع رنّحته العاصفات ، وما يطير‏
إلا فؤادك فوق سطح الماء يخفق في انتظار‏
رحل النهار‏
فلترحلي ، رحل النهار"ويمكن أن يكشف فضاء النص الشعري السابق عن استفادة الشاعر بدر شاكر السيّاب من الأسطورة اليونانية “ أوديس “ أو عوليس وزوجته " بنلوب" باعتبار أوديس رمزاً للجواب المغامر ، وباعتبار بنلوب رمزاً لزوجته الوفيه التي تنتظره على شاطىء البحر، لأن ثمة ملامح مشتركة بين السندباد وبين أوديس، وتتداخل هاتان الأسطورتان في الخطاب الشعري العربي المعاصر تداخلاً واضحاً ، حتى يبدو إيجاد الفرق بينهما من حيث الدلالة والرؤية الشعرية صعباً جداً .‏
وهناك ملامح سندبادية أخرى تظهر عند الشاعر بدر شاكر السيّاب ، وبخاصة في قصائده :" الليلة الأخيرة " من ديوان منزل الأقنان ،و" أفياء جيكور " و "الوصية " من ديوان المعبد الغريق . لكنني أكتفي بالنموذج السابق “ رحل النهار” كواحد من أكثر النماذج السندبادية عمقاً ومعاناة في تجربة السيّاب الذاتية والخاصة‏.
إن تحليل النص أو معرفة مدى انسجامه والحكم عليه بالنصية أو عدمها، يعتمد على ما تراكم لدى القائم على تأويل النص أو متلقيه من معارف سابقة تجمعت لديهقارئاً قادراً على الاحتفاظ بالخطوط العريضة للنصوص والتجارب السابقة التي قرأها أو عالجها.
وما نعرفه عن بدر شاكر السياب، وإن كان قليلاً، غير أّنه قد يسعف في الوصول إلى بعض هذا الهدف، فهو شاعر صاحب معاناة شديدة مع المرض، أوصلته إلى الوقوع تحت ضغوط حياتية صعبة وقد كان معاناته هاته مبثوثة في نصه.

                    - التشتت والفراغ والإنقطاع:
     وعلى الرغْمِ من أن التشتُّت والفراغَ والانقطاع والحذف تخلق حالة من ضعف العلاقات الاتِّساقية، فإّنها تُقَدم فضاء من الانسجام والتعالق الدلالي، الذي يعوض هذا الضعف، وهو تعويض قائم على عاتق المتلّقي الذي ينهض بعبء تأويل المحذوف أو الغائب.
   لقد لجأ المبدع في هذا النص أيضاً إلى استخدام النقيض في التعبير عن اليأس والأمل، ويحدِثُ هذا نوعاً من القلق الدلالي عند المتلّقي، وانقطاعاً في دلالة التعبير عن أمل زوجته بشفاءه، واستسلامه هو للموت:
وجلست تنتظرين عودة السندباد من السفار
هو لن يعود

فقد جمع الشاعر هنا بين المتناقضات لينتج صورة غير مألوفةالأمل/ اليأس ....مما يدعو إلى تكون إشكالية تواجه القارئ العادي على الأغلب، وهي الجمع بين هذه الدلالات التي تفضي إليها هذه المواد المعجمية غير المتَّسقة، ومن هنا يأتي دور المتلقي في إعادة رسم الخارطة الدلالية.
   وأما الحذف، والتكرار... فعلى الرغم من أّنها أدوات من أدوات الاتساق، فإّنها تكون أيضا أدوات من أدوات الانسجام. إلا أننا لن نتعرض لذكرها الآن من باب الاختصار، وتفادي التكرار.





خاتمة:

      يمكن القول بعد هذاإن عناصر الاتِّساق والانسجام قد تضافرت في تشييد البنية الدلالية لهذا النص، فما لم تتمكن آلية الاّتساق من التعبير عنه وملئه، قامت عناصر الانسجام بدورها للتعويض عن هذا التقصير، فما احتواه النص من وفرة عناصر الإحالة المقامية وارتباط سائر الإحالات بها، والتقليل من أدوات الربط والوصل مما أسهم في نقص الاتساق في النص، قامت عناصر الانسجام بتعويضه عن طريق المعرفة الخلفية، والبنية الكلية، ومقاييس التشتُّت والانقطاع والفراغ، مما دفع إلى نوع من اليسر في تأويل النص، وهو ما يمكِّننا من الحكم عليه بأنَّه نص متماسك مترابط، وهذا ما أمكننا قوله في محاولة تحليل هذا النص تحليلاً معقولاً من خلال آليات تحليل الخطاب، وهي آليات لغوية بالدرجة الأولى، وقد تفيد في جلاء بعض الدلالات التي يحملها النص.

البيبليوغرافية :
               المراجع:
لسانيات النص، مدخل إلى انسجام الخطاب. لمحمد خطابي. المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء.2006م. ط: الثانية.



[1] لسانيات النص، لمحمد الخطابي: 19.
[2] - نفسه: 21.
[3] - نفسه: 22.
[4] - نفسه: 24.
[5] - نفسه: 27.
[6] - نفسه: 34.
[7] - نفسه: 58.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.