الصفحات

الخميس، 22 سبتمبر 2016

الرئيسية التصوف عند اليوسي، من خلال كتابه: المحاضرات

التصوف عند اليوسي، من خلال كتابه: المحاضرات






التصوف عند اليوسي، من خلال كتابه: المحاضرات

إعداد الباحثة: فاطمة الزهراء داود

مقدمــــــــــة :

      التصوف هو بناء فكري متكامل، يمثل تعميقا لأمل الجماهير الشعبية المغربية، في نضالها لتحقيق العدالة الاجتماعية، وصنع عالم أفضل أساسه تلك العقيدة الصوفية السامية، التي تقوم بالدرجة الأولى على التحرر المطلق من كل عبودية، وهذا التحرر الذي هو الحضوة الأساسية لتحقيق مجتمع صالح .

      ولكم هو رائع أن تعبر شخصية ما عن عصر بأكمله، لاسيما إذا كانت هذه الشخصية تمتاز بجمع بين السمو العلمي والفكري من جهة، والانخراط في ثقافة العصر من جهة أخرى ... ينطبق هذا الأمر - في نظرنا - على العلامة أبي الحسن علي اليوسي الذي قال عنه محمد الصغير الإفراني في "صفوة من انتشر" أنه قد "أقبلت عليه طلبة العلم في جامع القرويين وتزاحمت على بابه الركب، ووقع له من الإقبال ما لم يعهد لغيره".. ويبدو من خلال كتاب "المحاضرات" لليوسي حِرص الرجل على إبراز أكبر قدر ممكن من عناصر ثقافة عصره، وهو ما يتضح من خلال المقدمة التي يقول فيها: "وإني قد اتفقت لي سفرة بان بها عني الأهل شغلاً وتأنيساً، وزايلني العلم تصنيفاً وتدريساً، فأخذت أرسم في هذا المجموع بعض ما حضر في الوطاب، مما أحال فيه أحان له إرطاب، وسميته المحاضرات، ليوافق اسمه مسماه، ويتضح عند ذكره معناه، وفي المثل: "خير العلم ما حوضر به".

فهو العلامة النحرير، الفقيه والمتكلم والصوفي، أبو المواهب الحسن بن مسعود اليوسي، أحد أعلام القرن الحادي عشر الهجري، الذي عكس من خلال مؤلفاته قوة حضور البعد الأخلاقي في الواقع المغربي، ومدى تأثير أهل الولاية في السياسات العامة للمجتمع. 
يمثل كتابه:(المحاضرات)، أنموذجا هاما لمتصوف ومفكر ارتبطت حياته بأفكاره، ولم يعرف ما يعاني بعض العلماء اليوم، من انفصام يجعل غالبا حياته وأفكاره على طرفي نقيض. 
ولقد ارتأينا في بحثنا المتواضع هذا، أن نخصص الحديث عن التصوف باعتباره توجها دينيا يهدف إلى توطيد صلة العبد بربه، عند هذا العالم الذي اشتهر بتدينه وورعه وتقواه، من خلال مؤلفه السالف الذكر. فحاولنا ما استطعنا إليه سبيلا تقديم نظرة شاملة عن حياة اليوسي وتكوينه الصوفي.


       المبحث الأول: ترجمة العلامة الحسن اليوسي  
     هو العلامة الصالح، ذو النهج القويم الواضح، أبو عبد الله سيدي محمد. أشهر من أنجبته الزاوية الدلائية من العلماء، حتى ارتبط اسمه باسمها، ينتهي نسبه إلى قبيلة بني يوسي، أو آيت يوسي[1] في عداد برابر ملوية، كان والده رجلا صالحا، لم يكن معدودا من رجالات العلم والفكر، وإنما كان معروفا بأخلاق الصلحاء، ذكر اليوسي شهادة في حق والده بقوله: " فاعلم أن أبي مع كونه رجلا أميا، كان رجلا متدينا، مخالطا لأهل الخير، محبا للصالحين، زوارا لهم، وكان أعطي الرؤية الصالحة، وأعطي عبارتها، فيرى الرؤيا، ويعبرها لنفسه، فتجيء كفلق الصبح"[2]، تعرض اليوسي لصدمة نفسية إثر وفاة والدته، وهو لا يزال صغيرا، غير أن هذه الواقعة رغم وقعها السلبي في نفسيته، إلا أنها كان لها أثر إيجابي في مساره العلمي، وقد عبر عن هذا التحول بقوله: "ثم توفيت والدتي، فتنكرت لي الأرض وأهلها، قال الشاعر:
فما الناس بالناس الذين عهدتهم       ولا الدار بالدار التي كنت تعرف
      وكان ذلك سبب الفتح، فألقى الله في قلبي قبول التعليم"[3]، كل هذه الاعتبارات السالفة الذكر، كان لها أثرها البارز على شخصية اليوسي، التي سينعكس وقعها في كتاباته ومواقفه في واقع عصره.
       * حياته العلمية:
    بدأ اليوسي تحصيله العلمي منذ صباه، فقد بعث به والده إلى الكتاب لحفظ القرآن، غير أن خجله الشديد كان يمنعه من حضور مثل هذه المجالس، حتى توفيت والدته كما أسلفنا، ليتغير واقع الحال، فيقبل على تلقي مبادئ العلم مع شيخه أبي إسحاق بن يوسف الحداد اليوسفي، الذي كان يوجهه إلى كتب الرقائق وأخبار الصالحين، حيث مَكَّنَهُ من مجموع "المورد العذب وبحر الدموع" لابن الجوزي، حيث قال: "فكنت أنظر فيه حكايات الصالحين كأويس القرني، وإبراهيم بن أدهم، وإبراهيم الخواص وغيرهم، فانتقشت تلك المآثر في عقلي، ووقعت حلاوتها في قلبي"[4]، ولعل هذا الأساس الروحي الذي تشبع به اليوسي منذ صباه، هو ما سينعكس على شخصيته العلمية، بما فتح الله عليه من الأسباب الميسرة لأخذ العلم، يحكي عن نفسه ما خُصَّ به من الإمكانات التي شكلت شخصيته العلمية، قوله: " وكانت قراءتي كلها أو جلها فتحا ربانيا، ورزقت ولله الحمد قريحة وقادة وفطنة ذكية، فكنت بِأدنى سماع وأدنى أخذ ينفعني الله"[5]، ولما ارتبط بالزاوية الدلائية، أخذ عن كبار علمائها، كأحمد بن عمران الفاسي، ومحمد بن أبي بكر الدلائي وغيرهم، "فنشأ رحمه الله في العلم بحرا زاخر العباب، وشمسا منيرة في سائر الآفاق، وكان معظم قراءته بالزاوية، فيها أورى زنده، واشتعلت جذوته، وظهر في مضمار الأذهان تبريزه"[6]، وكان لرئيس أهل الدلاء الفقيه الفاضل لأبي عبد الله محمد الحاج مزيد اعتناء به، لما رأى له من البراعة في العلوم والتمهر في الفنون، حتى قيل بأنه تضلع في العلوم العقلية وبرز فيها على أبناء وقته، وبلغ من خلال كتابه بالقول الفصل في الفرق بين الخاصة والفصل، درجة الشيخ سعد الدين التفتازاني، والسيد الجرجاني وأضرا بهما، بحيث يقبل من كلام العلماء ويرد، وسأله يوما سائل بدرسه عن مسالة فقال له: اسمع ما لم تسمعه من إنسان، ولا تجده محررا في ديوان، ولا تراه مسطرا ببنان، وإنما هو من مواهب الرحمان[7]، وبالجملة فقد وسمه الشيخ الإفراني بآخر العلماء، بل خاتمة الفحول من الرجال، حتى كان بعض أشياخنا يقول: هو المجدد على رأس هذه المائة، لما اجتمع فيه من العلم والعمل، بحيث صار إمام وقته وعابد زمانه، ولذلك قال الإمام أبو سالم العياشي فيه:
من فاته الحسن البصري يصحبه     فليصحب الحسن اليوسي يكفيه[8]
   المبحث الثاني:  التصوف عند الحسن اليوسي   
   التصوف خليق أن يصحب كل نزعة شريفة من النزعات الوجدانية، أساسها الصدق والإخلاص للشيخ، بحيث لا تملك النفس أن تنصرف عما آمنت به واطمأنت إليه. واليوسي التلميذ الروحي للشيخ ابن ناصر، كان متصوفا في حبه لآل زاوية الدلاء، وعندما فجعه الدهر في هذا الحب، كشف له الولاء والوفاء عن معين الحب الكبير، الذي بث جذوره فيه منذ سنين شيخ الزاوية الناصرية.                    
فهو إذن عرف التصوف الموصول بالقلب والروح، والمطبوع بالصدق والعمق. ولم يعرف أبدا ذلك التصوف الموصول بالإشارات والرسوم والتقاليد. فتصوفه هو الصدق في العواطف الدينية، والتعمق فيها بقصد النفوذ للجوهر.
أولا: التكوين الصوفي عند اليوسي                                
والحق أن شخصية اليوسي الصوفية، قد اشتركت في تكوينها عدة عوامل :
أولا، البيئة الخاصة[9]: وتعد البيئة التي نشأ فيها أبو الحسن اليوسي عاملا مساعدا في تشبع هذا الأخير بثقافة صوفية روحية، فقد وجهه الشيخ أبو إسحاق اليوسفي منذ صغره إلى الارتباط بأعلام الولاية عن طريق تمكينه من كتاب "المورد العذب وبحر الدموع" لابن الجوزي كما سبق الذكر، الذي كان يضم حكايات الصالحين ومناقبهم، قال اليوسي:{.. ومن أحسن ما استفدته على يده، أنه كان عنده مجموع فيه " المورد العذب" للجوزي، و " بحر الدموع " له، وكنت آخذه وأنظر فيه، فأطالع حكاية من فيه من الصالحين، كأويس القرني، وإبراهيم بن أدهم، وسيدي إبراهيم الخواص، وغيرهم نفعنا الله ببركتهم آمين. فانتقشت تلك المآثر في عقلي، ووقعت حلاوتها في قلبي، فكان ذلك سببا وبذرا، لما أنعم به الله تعالى علي من الإيمان بالطريقة، ومحبة أهلها والتسليم لهم...[10]}.
هذا بالإضافة الطابع الأسري الذي كان يحياه أبو الحسن داخل بيئته الخاصة، إذ كان والده من رجالات الصلاح، محبا لأهل الخير من الأولياء والصلحاء، معروفا بفراسة صادقة لا تخطئ، كل ذلك كان له نوع أثر في تشكيل شخصية صوفية أخلاقية متزنة، كان لها كبير وقع على ثقافة العصر.
ومن السمات البارزة التي صاحبت أبى الحسن اليوسي، والتي عملت على تكوين شخصيته الصوفية أيضا، تلك المظاهر الراسخة في الممارسة الصوفية، والمتعلقة بزيارة أضرحة الصالحين، وذلك منذ رغم صغره وقلة وعيه بهذه السلوكيات، ما يبرز قوة حضور الثقافة الصوفية داخل البيئة التي كان يقطن فيها، حيث لما ثم له ختم القرآن، قال: "رجعت لبلادنا فذهبت لزيارة الولي الصالح سيدي أبي يعزى، وقد وقع في سمعي أن الناس يطلبون الحوائج عنده، فحضر في عقلي ثلاث حوائج: العلم، والمال، والحج، وذلك مبلغ عقلي في صغري، فحصل لي ذلك ولله الحمد"[11]، وقد حدث في كتابه المحاضرات عن أسلافه، أن ثلاثة من صلحاء الغرب قد جرب عندهم قضاء الحاجات: الشيخ عبد السلام بن مشيش، والشيخ أبو يعزى يلنور، والشيخ أبو سلهام[12]، ولا شك وأن تلك الزيارات كانت تحرك في وجدان اليوسي نوعا من الشعور بالمكانة الخاصة التي يتنزلها الأولياء في سلم الترقي، حتى أصبحوا محلا للبركة، ونماذج يتوسل بصلاحها لقضاء الحاجات.
بعد هذا التفتح المبكر على حياة الزهاد والصالحين، يأتي مباشرة اتصاله بالطريقة الشاذلية، بواسطة زاهد عابد هو محمد بن ناصر شيخ زاوية تمكروت، الذي يقول فيه اليوسي، عندما يعدد شيوخه في فهرسته :{... ومنهم أستاذنا الإمام، وقدوتنا الهمام علم الأعلام، وشيخ مشايخ الإسلام، وقدوة الطريقة، الجامع بين الشريعة والحقيقة، سيدي محمد بن ناصر الدرعي ... سمعت مواعظه ووصاياه، وأخذت عليه عهد الشاذلية تبركا ... وانتفعت به ظاهرا وباطنا[13]}.
وتأثير ابن ناصر في حياة اليوسي تأثير بارز، تحدث عنه كلما سنحت له فرصة بذلك، كما اتصل اليوسي بالطريقة الشاذلية[14] أيضا، طيلة إقامته بالزاوية الدلائية، التي عرفت أيضا بانتمائها لهذه الطريقة الصوفية، عن طريق الصوفيين الكبيرين: الشيخ محمد الجزولي[15]، والشيخ أحمد رزوق.
وتشكل الزاوية بمنطقها التربوي الأخلاقي عاملا رئيسا في ترسيخ الوعي الصوفي ممارسة وتدريسا، وإذكاء البعد الوجداني في المجتمع، فكانت الطرق الصوفية في عصر اليوسي مراكز شامخة للتأطير العلمي، ونشر القيم الإنسانية من خلال نماذج تربوية مؤثرة -بكيانها الأخلاقي- في المجال المغربي، وذلك استجابة للبيئة العامة المميزة لطبيعة المجتمع، التي يغلب عليها البساطة والوضوح، والتركيز على ما تحته عمل، أو ما كان باعثا على العمل، لذلك نجد المشرب الشاذلي الذي استمد عناصره من مدرسة الإمام الجنيد، له حضور داخل صوفية المغرب، وفي بيئة اليوسي على الخصوص، ويذكر من خلال فهرسته الأسانيد الشاذلية التي ينتسب إليها شيخه سيدي محمد بن ناصر الدرعي[16]، الذي كان عمدته في الطريق الصوفي، قال الإفراني: "وأما علم الباطن فعمدته فيه هو الإمام أبو عبد الله بن ناصر الدرعي، هو طبيب علته ومبرد غلته، قال في الفهرسة: وهذا الشيخ هو الذي أخذنا عنه العهد والورد، وإليه ننتسب، وكل من نذكره سواه، فإنه على طريق انتفاع ما... وقد أذن له في تلقين الأوراد نيابة عنه، فكان يلقنها في حياته، فهرع الناس إليه وأقبلوا إليه يزفون، ووقع له من إقبال الخلق عليه ما لم يعهد مثله"[17]، وكانت الزاوية الدلائية مجال تكوين شخصية اليوسي علميا وتربويا، بل كانت له عناية خاصة من طرف رئيسها الفقيه الفاضل أبو عبد اله محمد الحاج، الذي كان عنده بالحظوة التامة.[18]
أما العامل الآخر المساهم في تكوين شخصية اليوسي الصوفية، هو عامل نفسي محض، يرجع إلى الإرهافات والحساسية في نفسية اليوسي، فقد كان الشعور بمأساة الدلاء، هو المحرك الأول الذي زعزع تلك العاطفة الصوفية الجياشة، وأخرجها للوجود. ولم تضطرب النفس الإنسانية قط بالشعور الذي لا يطاق، إلا إذا التمست لها ملاذا، وهذا الملاذ بالنسبة لليوسي هو الحب الشريف.




[1] - عبقرية اليوسي. لعباس الجيراري: 21.
[2] - المحاضرات، لليوسي :84.
[3] - صفوة من انتشر، للإفراني:344-345.
[4] - نفسه: 345.
[5] - نفسه:345.
[6] - نفسه:346.
[7] - نفسه:347.
[8] - نفسه:348.
[9] - المحاضرات، لليوسي:29.
[10] - الفهرسة، لليوسي:103.
[11] - صفوة من انتشر، للإفراني:348.
[12] - نفسه: 345.
[13] - الفهرسة، لليوسي:130.
[14] - طريقة تصوف تنسب إلى نور الدين ابن الحسن الشاذلي (592هـ/ 655 هـ)، ومتصلة بالإمام الجنيد (277هـ) منتشرة بكثرة في المغرب.
[15] - شيخ الطائفة الجزولية، ومؤلف كتاب " دلائل الخيرات" توفي سنة (870هـ).
[16] - صفوة من انتشر، للإفراني: 150.
[17] -: نفسه: 348.
[18] - نفسه: 347.



يتبع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.