الصفحات

الأربعاء، 28 سبتمبر 2016

الرئيسية قصة قصيرة: لعلّ وعسى، لفاطمة الزهراء داود

قصة قصيرة: لعلّ وعسى، لفاطمة الزهراء داود





قصة: لعلّ وعسى
                                                                    لفاطمة الزهراء داود

     ما أقبح هذه البيوت بصفائحها الكونكريتية، تبدو من الخارج مثل أقفاص صُفّ بعضها فوق بعض، ومربعاتها ومستطيلاتها تَبْرُز بين خطوط رمادية قاتمة، أو كرزية مُترِبة، وأحيانا زرقاء وحمراء. ولكن هذه الشرائط الملونة لا تغير من قبحها شيئا، ولا تمحو من النفس الانطباع بأنها أقفاص مصفوفة؛ لا توحي بمتانة البيوت، ولا بالديمومة، أما من الداخل فأعوذ بالله.
     ولكنني كمُقعد يمكن أن أتساهل مع عيوبها الداخلية، بل وأستمتع بها في أحيان كثيرة. إذ أن العالم المحروم منه، لا يتناهى إليّ عبر نافذة شقتي المطلة على الشارع، بل عبر جميع أضلاع تلك الأقفاص، أقصد الجدران التي تشركني بجيراني فيما حولي، بل وتسرب إلي أصواتا من فوق، لا أعرف من أي طابق جاءتني، أصوات شتى معظمها غير مريح، ولكنه يدل على حياة وتواصل؛ مسمار يدق في الحائط، ربما لتعليق صورة امرأة جميلة، أو منظر طبيعي خلاب، نقرات آلة طابعة لهفى تعد تقريرا علميا، أو ربما قصة عاطفية، طبطبة كرة طفل يظل فيّاض النشاط إلى ساعة متأخرة من المساء، كرْكبة أقدام، قرقعة صحون، وأحيانا بعد الحادية عشرة تنساب من نافذة مفتوحة على العالم الوسنان، أنغام بيانو ناعمة، تظل ترسل إشاراتها المنغمة. المترعة بالحنان فتتقافز في الفضاء، مثل أجراس صغيرة، إلى أن يصرخ صوت خشن يحتجّ على أنها تسلب النوم من أجفانه، فتسكت.
     غير أنني كنت أحب هذه الرسائل، وأنتظرها في رقادي على السرير، مفتوح العينين، حتى يأتي إلي الصبح برسائل أخرى.
    استيقظت اليوم كالعادة على سعال مدخن مزمن، يشاركني حائطا واحدا، عرفت أنني بعد دقائق سأشم رائحة تبغ قوية تأتيني من خصائص نافذة الشرفة، حين يخرج جاري إلى هناك مطرودا من زوجته وأطفاله، لأنه بتدخينه يكتم الأنفاس، ولكنني كنت أستعذب رائحة الداخان، فتتراءى في خيالي تلك الأوراق الصفراء التي رأيتها ذات مرة، منشورة على حبال- كما تنشر ملابس الغسيل أثناء رحلة قديمة، أخذني بها القطار خطأ إلى رحاب الجنوب الإيطالي، قبل أن يوصلني إلى نابولي، بعد ثماني ساعات عبر أنفاق طويلة. آنذاك كنت معافى، وتسليت بتلك المحطات الصغيرة التي توقف فيها قطار البريد هذا. آنذاك كانت الدنيا تبدو لي مسرحا مكشوفا لا ينتهي العرض فيه.
      بعد رسالة التبغ الحادة هذه، أزحت الدثار عن جسدي وقعدت على السرير، ثم نهضت متوكئا على المنضدة التي أمامي، حتى وصلت إلى نافذتي، وأطلت على الشارع، ورأيت الدنيا غارقة في تلك الظلمة الهشة، التي تتساوى فيها ساعات الفجر والمساء، زرقة كدرة أو رمادية مزرقة، تبدو فيها السماء صحنا مقلوبا، تبعثرت محتوياته. كان الفصل يتقاسمه الثلج الرطب، والمطر الشبيه بالثلج.
      تطلعت من النافذة حتى تعبت رجلاي، فألقيت بجسدي على سريري في انتظار الرسائل الصباحية الأخرى. لم يكل انتظاري، سمعت باب جاري إلى اليسار يفتح، أرهفت سمعي متلصصا، وسمعت هذا الحوار:
- إذا جئتَ في السماء ومعك زجاجة لن أتركك تدخل البيت.
- وإذا جئتُ شاربا؟
- لن أدخلك أيضا.
- إذن لا تنتظريني، مع السلامة.
      ولكنني أعرف أنها تنتظره، وبقلق أيضا، سواء أكان ثملا، أم مصطحبا زجاجة، لأن الزوجة لابد أن تنتظر زوجها في أي حال كان. هذا نصيبها، قدرها. وقد جربته قبل الزواج، ولا بد أنها عرفت عاداته الحميدة والسيئة، ثم إن ذلك كان منذ زمن طويل، كما أعتقد، فإن لهما بنتا ينتظرانها أن تتزوج.
      قلت لنفسي: لعل وعسى أن يأتي قاسم اليوم ليزف إلي بشارة ما، ولكن لن يأتي قبل الحادية عشرة، وما يزال أمامي متسع من الوقت، ثلاث ساعات بكاملها، دهر من الدقائق والثواني. تحاملت على نفسي، وأخذت أقوم ببعض التمارين الرياضية الخفيفة التي نصحني بها الأطباء، حتى لا تتيبس أطرافي تيبسها الأخير. سمعتها تقرقع بألم، قاومت الألم، فالألم يجب أن يقاوم، والجسد يجب أن يقاوم، والوحدة يجب ...
    سمعت صوتا آخر يرتفع من الباب إلى يميني، جارتي تنادي بصوت ناعم: "كاتي، كاتي، صباح الخير"، أنا أعرف أنها لن تتلقى من هرتها الصغيرة ردا، وأود ذلك من كل قلبي، لأن ... (لعل وعسى) هاتين توسوسان في قلبي.
    بالطبع، لم تتلق ردا، سمعتها تقول: كاتي حبيبتي أنا ذاهبة للعمل، لا تستوحشي لوحدك، العبي بقدر ما تشائين، فقط أريدك أن لا تستوحشي، وفي المساء سأعود وأحكي لك كل شيء، عما جرى في دائرتنا اللئيمة، لأنها تبعدني عنك ثماني ساعات، اتفقنا؟ شرابك وطعامك جاهزان في المطبخ. وفرشتك دافئة ناعمة، كوني مكاني كاتي، مع السلامة كاتي.
ولم أسمع صوت كاتي، ولا حركة. سمعت اصطفاق باب، وقلقلة مفتاح في ثقب الباب، وطبطبة كعبين نسائيين في الممر، ومع السلامة، في انتظار رسائل أخرى.
كان الوقت قد تجاوز التاسعة، قلت سأهيئ لي شاي الصباح، وشيئا أزدرده، وأنتظر.
بدأت حركة السيارات تشتد في الشارع، حولة عصيدة الوحل إلى شرائط هلامية تشق الشارع طولا. ناس في داخلي لحن كالترنيمة: " كاتي، كاتي، كاتي، كاتي" رحت أردده في سرّي، حتى أصبحت موقنا بأن هذا الاسم الجميل لا يمكن أن يكون لقطة، مستحيل، اسم موسيقي منغم.
     شلت يداي، حدقت في الحائط ورأيته يتمايل نشوة، لابد أنه هو أيضا قد تشبع بهذا النغم، شيء مبهم وجبار يدفعي إلى المغامرة، أنا المتكلس المفاصل، ترددت كثيرا قبل أن أستجيب له.
      تركت المطبخ، وأنا في كرسيّ المتحرك خلف بابي، أمام العين السحرية، رفعت جفنها، ونظرت، الممر خال، وقلبي يخفق، ولكن لولب المغامرة يدور في داخلي ويدفعي إلى المجهول دفعا، أدرت المفتاح بالقفل، مقطعا الدورة على الثلاثة مقاطع. الباب الآخر على بعد خطوتين مني، تقدمت، تلمظت، وناديت همسا: كاتي ... كاتي، انتظرت، قلبي يدق بعنف، أعرف أن أحدا لن يرد، ولكنني أخاف، المواء، الفضيحة، ولكن (لعل وعسى) متأصلتان في أعماقي، دائما تمدان حبل الأمل لي فأحلم.
كررت بصوت أعلى: كاتي، كاتي ...
    وأحسست بموجة من الحنان الدافئ تغمرني، وجعلتني أضيف، ردي علي، أنا جارك حبيس مثلك، نحن صديقان، كاتي، أعرف أنت تخافين من فتح الباب ... وفجأة سمعت حركة ورائي، قاسم.
- أمسك نفسك، حذار أنت تقع.
كنت أرتجف، وقد تمايلت من على الكرسي، وحالتي ازدادت سوءا فبذلي لأي جهد يزيد صحتي تدهورا. قادني قاسم وأغلق بابي ورائي، جلسنا، صمت يحرق الصدر والقفا، قاسم يلتهمني بعينيه:
- أي علاقة جديدة؟ وأنت في بلاد الغربة؟ مبروك...  لقد سمعت المونولوج كله.
- أنت متوهم.
- في هذه الحالة أرجو ألا أكون كذلك، لفائدتك الخاصة.
- ليس لي من وراء ذلك أي فائدة.
- حب يائس.
- انفجرت وصحت في وجهه:
- أراك جئت مبكرا، هل جئتني ببشارة؟
تريّثَ قبل أن يقول بهدوء:
- عترث على طبيب مختص بمرضك.
وهذه هي البشارة السابعة أو الثامنة، ربما، ولكن أود من كل قلبي في هذه المرة صادقا. فلعل وعسى.
أو لعل وعسى كاتي آخر وجه كنت أتمنى رؤيته قبل رقادي الطويل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.