حبال
اليأس
بقلم : فاطمة الزهراء داود
وأكتب من
جديد ... كلمات وكلمات ... ثم أضع القلم ... وأمد بصري إلى لا شيء، وأعود به مرة
أخرى إلى للا شيء ... وأفتح الكتاب وأقرأ من جديد ... كلمات وكلمات ... ثم أغلق
الكتاب ... وأمد بصري إلى لا شيء، وأعود به مرة أخرى إلى لا شيء...
نفس
الكلمات التي أكتبها من جديد، كتبتها من قبل، المنهج، الحضارة، الكلمة، البحث
الجاد... ونفس الكلمات التي أقرؤها من جديد، قرأتها من قبل، الحب، الحقد،
الانتقام، الرغبة، الحلم ... السعادة ...
وأضع
القلم، وأغلق الكتاب، وأنظر من جديد ولا أرى، وأغض البصر من جديد، ولا أرى أيـضا..
ولست أدري أين ومتى، ولا في أي منعطف من الطريق فقدت القدرة على الرؤية التي تبرز
فجأة وسط الظلام فتحط نفسها فوق الورق، أو تلمح الجديد بين سطور الكتاب الذي أقرأ
فيُنوّر بفكرة جديدة كالشهاب اللماح اللامع .. ولكني فقدت هذه القدرة، ووهن القلم،
ووهن القلب.. ووهن الذهن، فكل شيء يزيد عليه عبء السنين التي مرت، والأيام راحت
دون ثمن ودون معنى ...
طوت قارئة الجريدة صفحاتها في ملل، ثم تثاءبت، وصفقت
بيديها، وتلفّتت حولها، ولم يجبها أحد، فتثاءبت من جديد، ثم وضعت الجريدة على حافة
المنضدة، وركنت مرفقها إلى المنضدة، وخلعت نظارتها وطوتها بعناية فائقة، ووضعتها
في حافظتها الجلدية، ثم في حقيبتها، وعادت تتثاءب، ثم نظرت حولها مرة ومرة، واستقر
بصرها على لا شيء، وسكنت هناك، وقد نسيت أنها صفقت وأنها طلبت النادل، وأن الجريدة
إلى جوارها .. نسيت كل شيء، وعادت تتثاءب، ثم تسند رأسها إلى مرفقها، وتنتظر في
فراغ غريب حدوده حافة النافذة، والجدار و(نصبة) القهوة في قاع المقهى البعيد، ومضت
تنتظر وأسراب من ذباب تحوم حولها في إصرار عنيد، وهي قد تعبت من كثرة ما أبعدت هذه
الأسراب مرة، ومرة، ومرات، فتركتها ومضت تسمعها وترقبها في صمت واستسلام...
ماذا يهم إن جاء النادل أو لم يجئ، ماذا يهم إن شربت
القهوة أو لم تشربها؟ هي لا تعجب، إلا أنها ما زالت تشم رائحة القهوة، وتسمع طنين
الذباب، وتحس بمرفقها يضغط على حافة المنضدة، وبرأسها يضغط على كفها ...
ولكن النادل جاء، ووضع أمامها قدح القهوة فارغا، ثم مضى
في مهارة وسرعة يصب القهوة من وعائها النحاسي اللامع في قدحه، ثم وضع كوب الماء
المثلج أمامها، وانحنى انحناءة طبيعية كأنها جزء من كيانه، ومضى ... ترى كم من
الرجال في كم من المقاهي، في كم من البلاد، فعلوا هذا تماما؟ حملوا الصينية
الصغيرة فوقها الوعاء والقدح والكوب، ثم وقفوا أمام منضدة يجلس عليها إنسان، ثم
رفعوا القدح ووضعوه، ثم صبوا فيه القهوة بمهارة، ووضعوا إلى جواره كوب الماء
المثلج، وانحنوا ... كم وفي كم من السنين والأيام فعلوا هذا؟ وفي النهاية كفوا عن
كل انحناء ومهارة، ومدوا أجسادهم المتعبة، ثم ناموا إلى الأبد في قبور يجهلها كل
الناس. كل الذين شربوا القهوة كل الذين صفقوا يستدعونهم من أجل الطلبات، وكل من ردّوا
على انحناءاتهم الطيّعة، بابتسامات طيّعة لا معنى لها، ولا صوت ...
وارتفع في
الطريق صوت أجش متقطع لمحرك خرب، ودفقات صوت قوية حزينة كأن شيئا يتفجر على دفعات
... ومرت أمامها سيارة قديمة الطراز تئن وتصرخ وتتفجر، والدخان يتصاعد من مقدمتها،
ومن بين عجلاتها الخلفية، وهي تهتز وتسير، وتئن وتسير، وكأن كل جزء منها يريد أن
ينفصل عن باقي أجزائها، أو كأن مجرد وجوده ملتصقا بباقي الأجزاء التي التصق بها
عبر عديد من السنين، قد ملأه بالاشمئزاز والقرف من وجوده حيث هو، يكون جزءا ما من
العربة المهتزة، المرتجفة التي يئن محركها كأنه شيء مشروخ الحنجرة ينعي وجوده
نفسه.
وارتفعت صيحات
صبية في الطريق، وقفوا يشيرون بأصابعهم وصيحاتهم وقفزاتهم إلى العربة المتهالكة
التي تئن في الطريق .. هل وجوهم حقا قذرة جدا؟ أم أن شيئا معتما يمر أمام عينيها
يجعلها ترى في كل شيء آثارا من تراب قبيح اللون، عفن الرائحة ... والعربة تئز
وتسير بطئية، بطيئة، ومتهالكة .. وقفت فتاة تضحك وتحني رأسها لتلعب النسمة بخصلات
شعرها وهي تشير إلى العربة، وتضغط على عضلات ساعد صديقها، الأسمر الطويل المليء
بالفتوة والشباب .. ويهمس شيئا في أذنها فيضحكان من جديد ..
وهذه العربة
المتهالكة كانت يوما ما قرة عين شوارع القاهرة، تتبعها كل عين بحسد وإعجاب، ويجلس
فيها ربما شابان يشبهان هذين الأخيرين في تصرفاتهما وحركاتهما، فتاة يداعب النسيم
خصلات شعرها الأسود الجميل، بينما هي تضغط على عضلات خطيبها الأسمر المتوسط الطول
المليء بالقوة والشباب، ويهمس بشيء في أذنها، ويضحكان كأن المشهد يعيد نفسه للتو، وزهوهما
بالعربة الجديدة، والثروة والشباب يملأ عروقها بدفق دماء حية، يجعلهما يحسان
بالتفوق لأنهما قد آتيا جديدا لا يعرفه كثيرون، إنهما طليعة تغير يتم في عادات من
تعودوا على ركوب العربات والحمير، وتغير يتم في شكل شوارع القاهرة، وأرصفتها
وطبيعة رصفها، واتساعها ..
ويضحك الصبية، والعربة تهتز وكأنما تجر عبئا ثقيلا يصفّد
خطاها مع كل حركة ..
وتنهدت في
نفور، هل يستطيع أحد أن يقبض على قطعة من الزمن ليعيدها أمامها من جديد كما فعل
خيالها الآن؟ أبدا، الخيال وحده الذي يخلق من بقايا الذكريات. أما الزمن فيمر،
ويمضي بلا عودة، وأما العربة فهي بقايا مزق وأشلاء جمعها عنيد يريد أن يتحدى مر
الزمن، لم تره، لم تلمح وجهه، ربما كان مثلها لا يكاد يحس نظرات الصبية، وضحكات
الشابة ورفيقه.
وفي جانب آخر
الماء يتفجر من عيون الخزان يضرب الهواء برذاذه، ويلمع في أشعة الشمس متحديا
الوجود والحياة، ثم يضرب في سطح النهر ليدفعه إلى أمام في قوة، تفجر رذاذا عند
الصخور، وتدفع أمامها قطعا من الصخر تخصب الأرض، ويمور حول كل عقبة كأنما يمزقها
بحيويته الدافقة، التي لا تعرف حدودا لقوتها وفتوتها ولمعانها كالفضة وسط أشعة
الشمس الساطعة .. هذه القطرات الثائرة الفوارة تتعلم طوال الطريق لا تستطيع أن
تحيد عنه، كلها متشابهة، تسير، من أول الطريق من عند الخزان إلى نهاية الطريق حيث
تذوب كلها في البحر، بعضها تبتلعه الأسماك في الطريق، وبعضها تمتصه الأنابيب تحمل
المياه إلى المدن، وبعضها يملأ جرار الفلاحات عند أطراف القرى، ولكنها كلها تمتلئ
بالأوساخ والبقايا التي تتساقط فوقها على طول الطريق .. وهي تسير لا مبالية رتيبة
غبية صماء .. حتى يبتلعها البحر عند نهاية المطاف .. وبعضها تلتقطها أشعة الشمس
الحارقة لتبخرها وتذيبها لتتصاعد إلى السماء كالملائكة بعض حين، ثم تعود لتهطل
باكية نهايتها الفاجعة وتغوص في رمال حارقة تبتلعها إلى الأبد في جوفها السحيق ...
ومدت يدها إلى
قدح القهوة في تراخ .. بارد القدح، وباردة القهوة، وهي لا تريدها .. ولكنها مع هذا
رفعتها إلى فمها وشربت القدح المر دفعة واحدة، تحب هي دائما ألا تهرب من قدحها المر
وأن تشربه كاملا، ومرة واحدة، ثم تروح تدير مرارته فوق لسانها وعند حلقها.
وتحركت حولها
الأشياء الصغيرة، بائع اليانصيب، وماسح الأحذية، وحوار حول المعاشات بين مجموعة من
بقايا الدواوين والمكاتب، وتعطيل الملفات، وزجر السعادة، ونهر أصحاب المصالح،
والانحناء لسيادة الوكيل ... والراديو يملؤه صوت أجْوف لا معنى له ولا حس فيه،
يحكي أخبارا سمعها من قبل تتغير أسماء الأشياء، وأسماء الأعلام، ولكن الأخبار هي
هي لا تتغير أبدا، ولا تتبدل ويسدل عليها الستار بعد حين، ليرفع في مكان آخر
بأسماء أخرى للأماكن والأشخاص في مسرحية باهتة أخرى، مليئة أيضا بالأطماع
والشهوات، والغرور والخبث، والدماء والقتل، والجوع، والعري، والكلمات التي يكررها
كل شيء صغير من زمن ... والنادل رفع قدح القهوة الفارغ وكوب الماء ومضى ..
حاولَت أن تتذكر شيئا، أي شيء، ماذا حدث لذاكرتها؟ لا تدري
.. الصور لا تنثال عليها، ولا حتى تقترب منها، هنا عند هذه النافذة كانت دائما تمسك
بقلمها تكتب كالمجنونة، كان كل شيء فيها يحترق ... ثم احترق كل شيء ... وانتهى
وضاع الجنون، وهي هنا عند النافذة بلا قلم ولا ورق، ولا حتى أي شيء تتذكره، لا شيء
أبدا .. أبدا .. أبدا .. لا شيء ..
ماذا تريدين؟ كلمة رثاء مثلا، أم نظرة شفقة ..؟ لا شيء
يا آنسة، فالكل لَاهُون بما هم فيه، والكل مدرك لما يفعله.. يعرفون أن يومهم
يريدهم، فهم يُعطون اليوم ما يريد .. وما فات فات، والأمس انقضى، وصفحة طويت ..
ما أتعس هذا .. هل تُحيلين كل شيء إلى روائح
العفن؟ أنت التي صمتِّ حتى تتأسيْ، حتى تنسيْ، حتى تبرري العجز.
صاح النادل بالطلبات، دق ماسح الأحذية فوق
صندوقه الخشبي، ولوح بائع الجرائد بجرائده في يده، ومرت بائعة اليانصيب في صمت
تعرض وريقاتها الملونة، والمرأة ذات الثوب الأسود واليد الممدودة بعلب الكبريت،
والرجل الأعرج يحجل فوق ساق خشبية، وبنت تقود امرأة فوق عينيها نظارة سوداء، كأنها
عمياء وجسدها يرغم الأعمى من وراء الثوب الأسود على الرؤية والنظر .. ثم دوى صوت
جرس الترام .. وصياح ديوان سيارات في الميدان، وهمود من جديد..
وعادت تمسك القلم ..
هل تقوى على أن تكتب من جديد ..؟ .. الصخب هو
هو، ما حولها، وما يحيطها .. ولكن الصخب همد داخل نفسها، فلا ثورة، ولا رغبة ولا
انفعال ..
وتطوي الصفحات، وتغلق القلم .. كل ما حولها
لا يصنع ما يمكن أن تكتبه، فقد مات شيء في داخلها .. التفت حولها حبال اليأس
فخنقتها وماتت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق